( لمّا ولدتُه خرج من فرجي نور أضاءت له قصور الشام )
( نورًا بدا منّي ساطعًا حتى أفزعَني ، و لم أرَ شيئًا مما تراهُ النّساء )
هكذا تروي أمه السيدة آمنة بنت وهب ولادة ابنها محمد صلى الله عليه و سلم
كان ميلاده
أهم حدث في التاريخ على الإطلاق
منذ أن خلق الله الكون
و سخر كل ما فيه لخدمة الإنسان
و كأن هذا الكون يرتقب قدومه منذ أمد بعيد
فإن الطهر ولد معه و البشر صاحبه
و التوفيق رافقه .. فهو طفل لكن لا كالأطفال
براءة في نجابة ..و ذكاء مع زكاء .. و فطنة مع عناية
فـ عين الرعاية تلاحظه .. و يد الحفظ تعاونه ..و أغضان الولاية تظلله
فهو هالة النور بين الأطفال .. حفظه الله من الرعونة
و من كل خلق رديء و وصف مقيت و مذهب سيّء
لأنه من ثغره مرشح لإصلاح العالم .. مهيّأ لإسعاد البشرية .. معدّ بعناية لاخراج الناس
من الظلمات الى النّور
فهو الرّجل لكن النّبي .. و الإنسان لكن الرّسول
و العبد لكن المعصوم .. و البشر لكن الموحى إليه
و أمّا شبابه .. فهو زينة الشباب و جمال الفتيان
عفّة و مروءة و عقلاً و أمانة و فصاحة .. لم يكن يكذب كذبة واحدة
و لم تعلم له عثرة واحدة و لا زلّة واحدة و لا منقصة واحدة
فـ هو طاهر الإزار مأمون الدخيلة .. زاكي السر و العلن
وقور المقام .. محترم الجانب أريحيّ الأخلاق
عذب السّجايا .. صادق المنطق .. عفّ الخصال .. حسن الخلال
فـ هو النبأ العظيم .. و الحدث الهائل .. و الخبر العجيب .. و الشأن الفخم .. و الأمر الضخم
{عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * }
سورة النبأ
فـ مبعثه حقيقة
هو أروع الأنباء و أعظم الأخبار الذي سارت به الأخبار
و تحدّث به السمّار .. و رعاه الركبان .. و اندهش منه الدهر .. و ذهب منه الزمن
فقد استدار له التاريخ و وقفت له الأيام
فـ قصة إرساله عليه الصلاة و السلام لا يلّفها الظلام و لا تغطيها الريح و لا يحجبها الغمام
فـ إنّما هي قصة عبرت البحار و اجتازت القفار .. و نزلت على العالم نزول الغيث
و أشرقت إشراق الشمس .. فـ هو بإختصار
نــــــــور .. و هل يخفى النّور ؟؟
{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }سورة الصف
لقد كان أصحابه صلى الله عليه و سلم ينظرون إليه على المنبر و دموعه تذرف
و نشيجه يتعالى .. و لصدره أزيز و لصوته أزيم
حينها يتحول المسجد إلى بكاء و دموع
كلٌّ ينكّس رأسه و يترك التعبير لعينيه أمام هذا المشهد الذي لا تمحوه الأيام و لا تنسيه الليالي
يا الله ! محمد رسول الله هكذا باكياً أمام الناس !!
هكذا تسحّ دموعه وتتساقط على وجنتيه !!
و هو أعرف الناس بالله و أدراهم بالوحي و أعلمهم بالمصير
يبكي من قلب ملؤه الخوف من الله .. و من نفس عمَرها حب الله
فـ تكاد دموعه تتحدث للناس .. و يكاد يكون بكاؤه أبلغ من كل موعظة و أفصح من كل كلمة
~~
كان الرسول صلى الله عليه و سلم في ضحكه و مزاحه و دعابته وسط
بين من جفّ خلقه و يبس طبعه و تجهّم محيّاه و عبس وجهه
و بين من أكثر من الضحك و استهتر في المزاح و أدمن الدعابة و الخفة
فـ كان صلى الله عليه و سلم يضحك في مناسبات
حتى تبدو نواجذه .. و لكنه لم يستغرق في الضحك حتى يهتز جسمه أو يتمايل أو تبدو لهواته .. و هي أقصى الحق
و قد صحّ عنه أنه قال
'و إيّاك و الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب'
أخرجه أحمد
~~
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم
يقوم يصلي حتى تنتفخ قدماه .. فيقال له : يا رسول الله تفعل هذا و قد غفر الله لك ماتقدم من ذنبك و ما تأخر ؟
قال
' أفلا أكون عبداً شكوراً '
~~
و صف لنا عمر رضي الله عنه فراش رسول الله و أثاثه فقال : دخلت على رسول
الله صلى الله عليه و سلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير
ليس بينه و بينه فراش .. قد أثّر الرمال بجنبه .. متكئ على وسادة من أدَم حشوها ليف
فـ سلمت ثم رفعت بصري في بيته فـ والله ما رأيت فيه شيئاً يرد البصر غير أهَبَة ثلاثة
فقلت : ادع الله فـ ليوسع على أمتك فإن فارس و الروم وسع عليهم و أعطوا الدنيا و هم لا يعبدون الله
و كان مئكئاً .. فقال
' أوَ في شك أنت يا ابن الخطاب ؟؟.. أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا ' فـ قلت يا رسول الله استغفر لي
رواه البخاري
~~
عن أبي هريرة : أن رسول الله
خرج إلى
المقبرة
فقال
"' السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أني قد رأيت إخواننا "
فـ قالوا : يا رسول الله ألسنا بإخوانك ؟؟
قال
" بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطهم على الحوض "
فـ قالوا : يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك ؟؟
قال
" أرأيت لو كان لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله "
قالوا : بلى يا رسول الله
قال
فـ إنّهم يأتون يوم القيامة غراً محجًلين من الوضوء
وأنا فرطهم على الحوض فلا يذادنّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال
أناديهم ألا هلمّ ألا هلمّ ألا هلمّ .. فـ يقال إنّهم قد بدّلوا بعدك فـ أقول فسحقاً فسحقاً فسحقاً
رواه مالك في الموطأ و النسائي و ابن حبان بسند صحيح
تتابعت الأمارات الدالة على وفاة النبي عليه الصلاة و السلام
(1)
نزلت الآيات القرآنية واضحة صريحة تتحدث عن وفاته
{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ
وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ }سورة آل عمران
و لمّا نزلت الآية
{ إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ }النصر
أدرك منها بعض الصحابة أنها أجل النبي عليه الصلاة و السلام
(2)
و من العلامات الدالة على اقتراب أجله صلى الله عليه و سلم
ما وقع من معارضة جبريل للنبي عليه الصلاة و السلام مرتين
في آخر رمضان شهده
تقول فاطمة رضي الله عنها : أسرّ لي رسول الله صلى الله عليه و سلم
' أنّ جبريل كان يُعارضُني بالقرآن كلّ سنة .. و إنّه عَارضني العَام مرّتيْن و لا أراهُ إلاّ حضَر أجَلي '
(3)
قال عليه الصلاة و السلام للمسلمين في حجة الوداع
' لعلّي لا أراكم بعد عامي هذا '
فما عاش الرسول عليه الصلاة و السلام بعد حجة الوداع إلاّ إحدى و ثمانين يوماً
في يوم
الإثنين خرج الرسول عليه الصلاة السلام و المسلمون يصلون صلاة الفجر
فكشف الستر و وقف على باب عائشة رضي الله عنها
و ابتسم الحبيب عليه الصلاة لمّا رأى من حُسْن هيئتهم في الصلاة
و أرخى الستر
و كأن الرسول أراد أن يُلقي على أصحابه
نظرة الوداع
و كانت
آخر نظرة نظرها إلى أصحابه عليه الصلاة و السلام
أرخى الستر .. و دخل إلى بيت عائشة
و لا يدري أحد أنّ اللحظات الأخيرة من عمر الحبيب صلى الله عليه و سلم بدأت
تتلاشى و
تنتهي
عاد الحبيب .. و إذ بملك الموت ببيت الحبيب
انتهى الأجل يا رسول الله !!
انتهى الأجل يا حبيب الله !!
ملك الموت الآن في بيت المصطفى
و رسول الله في حِجْر
عائشة .. بين سحرها و نحرها
رأسه عليه الصلاة و السلام على صدرها
و ملك الموت في الدار
و اقترب الأجل و انتهت اللحظات الأخيرة من عمر الحبيب عليه الصلاة !!
الموت !!
انتهى الأجل كما حدده الله
و يُقْبلُ ملك الموت ليعالج أطهر روح على ظهر الأرض
ليقبض أشرف روح
لينادي على روح المصطفى
يا أيتها الروح الطيبة ..أخرجي إلى مغفرة من الله و رضوان .. وربٍ راضٍ عنك غير غضبان
أخرجي يا روح محمد بن عبد الله أطهر روح وأشرف روح
{ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي }
و تفيض روح الحبيب
مات رسول الله !!
مات حبيب الله !!
مات إمام الأنبياء !!
مات سيد المرسلين !!
فسقطت يده عليه الصلاة و السلام
فعلمت عائشة رضي الله عنها أنه مات
فخرجت تبكي و تصرخ
أبا بكر .. دخل على جثمان الحبيب عليه الصلاة و السلام
اليوم تدخل على جثمان الحبيب يا أبا بكر
و قد كنت في الأمس القريب تدخل على سيد الخلق ..و أنت اليوم تدخل على
جثمان مسجّى يا أبا بكر
فدخل الصديق إلى جثمان الحبيب
و كشف الغطاء عن وجهه و
جلس على ركبتيه أمام الحبيب
فقبله بين عينيه و هو
يبكي و يقول
طبت حياً و ميتاً يا رسول ..جللت يا حبيبي عن البكاء
وا صفيّاه ! .. وا خليلاه ! .. وا نبيّاه !
و خرج أبا بكر إلى الناس .. فأقبلوا عليه ..وقف ليعلن الحقيقة الكبرى في هذا الوجود كله
أيها الناس .. أيها الناس .. من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات .. و من كان يعبد
الله فإن الله حيٌ لا يموت
و كفّن الحبيب
في ثيابه
و كانوا يصبون عليه الماء .. و عليّ رضي الله عنه يغسله من على الثوب
لا تمس يده جسد الحبيب عليه الصلاة
و غُسّل الحبيب
و كُفّن الحبيب
و دُفِنَ الحبيب في غرفته التي مات فيها في حجرة عائشة رضي الله عنها
و لما سمعت نساء النبي عليه الصلاة
أصوات المساحين في الليل و هي تهيل التراب على جسده
تعالت أصواتهن بالصراخ .. و ضجت المدينة بالبكاء
و ضجّت فاطمة رضي الله عنها و بكت و هي تقول
وا أبتاه .. يا أبتاه .. يا أبتاه أجاب رباً دعاه .. وا أبتاه إلى جبريل ننعاه .. وا أبتاه في جنة الفردوس مأواه
و لما حان وقت أول صلاة بعد وفاته
فأذن بلال رضي الله عنه
فلما جاء عند قوله
( أشهد أن محمداً رسول الله)
بكى بلال رضي الله عنه و لم يستطع أن يكمل الأذان .. فبكى الناس ..و ضجت المدينة بالبكاء
و هكذا
مات الحبيب .. في هذا اليوم
و الله يا رسول الله
إن العين لتدمع
و إن القلب ليحزن
و إنا لفراقك يا رسول الله لمحزنون