من كتاب الفوائد لابن القيم الجوزية رحمه الله هذه الفائدة الجليله
تأمّل خطاب القرآن تجد ملكا له الملك كله, وله الحمد كله أزمّة الأمور كلها بيده, ومصدرها منه, ومردّها إليه, مستويا على سرير ملكه, لا تخفى عليه خافية في أقطار مملكته, عالما بما في نفوس عبيده, مطّلعا على أسرارهم وعلانيتهم, منفردا بتدبير المملكة, يسمع ويرى, يعطي ويمنع, ويثيب ويعاقب, ويكرم ويهين, يخلق ويرزق, ويميت ويحيي, ويقدر ويقضي ويدبّر.الأمور نازلة من عنده دقيقها وجليلها, وصاعدة إليه لا تتحرّك ذرّة إلا بإذنه, ولا تسقط ورقة إلا بعلمه. فتأمّل كيف تجده يثني على نفسه, ويمجّد نفسه, ويحمد نفسه, وينصح عباده, ويدلّهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم, ويرغّبهم فيه, ويحذّرهم مما فيه هلاكهم, ويتعرّف إليهم بأسمائه وصفاته, ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه, فيذكّرهم بنعمه عليهم, ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها, ويحذّرهم من نقمه ويذكّرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه, وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه, ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه, وكيف كابت عاقبة هؤلاء وهؤلاء, ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم, وأحسن أوصافهم, ويذم أعداءه بسيئ أعمالهم, وقبيح صفاتهم. ويضرب الأمثال, وينوّع الأدلّة والبراهين, ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة, ويصدق الصادق, ويكذب الكاذب, ويقول الحق, ويهدي السبيل, ويدعو إلى دار السلام, ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها, ويحذّر من دار البوار, ويذكر عذابها وقبحها وآلامها, ويذكر عباده فقرهم إليه وشدّة حاجتهم إليه من كل وجه, وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين, ويذكر غناه عنهم وعن جميع الموجودات, وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه, وكل ما سواه فقير إليه بنفسه, وأنه لا ينال أحد ذرّة من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته, ولا ذرّة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته. ويشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب, وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم وغافر زلاتهم ومقيم أعذارهم, ومصلح فسادهم والدافع عنهم, والمحامي عنهم, والناصر لهم, والكفيل بمصالحهم, والمنجي لهم من كل كرب, والموفي لهم بوعده, وأنه وليّهم الذي لا ولي لهم سواه فهو مولاهم الحق, ونصيرهم على عدوهم, فنعم المولى ونعم النصير.فإذا شهدت القلوب من القرآن ملكا عظيما رحيما جوادا جميلا هذا شأنه فكيف لا تحبّه, وتنافس في القرب منه, وتنفق أنفاسها في التودد إليه, ويكون أحب إليها من كل ما سواه, ورضاه آثر عندها من رضا كل ما سواه؟ وكيف لا تلهج بذكره, ويصير الحب والشوق إليه والأنس به غذاؤها وقوتها ودواؤها, بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت, ولم تنتفع بحياتها