لم تخبُ في ذاكرتي بعد تفاصيل اليوم الأول لارتدائيالعباءة ..
لازالت تومض كضوء سارية تتمايل بين أذرع الموج .. في ليل داج ..
لم أكن أعلم وقتئذ أنني سأطوي صفحة من حياتي .. لن تفتح إلى الأبد ..
ولميقع في روعي أنني سأودع مع غروب شمس ذلك اليوم.. آخر نهار ضجّ بعبثالطفولة..
كانت المفاجأة أكبر من أن يسعها إدراكي بحدوده الضيقة ..
وجل ماكانيحزنني ويربكني أن أغادر عالمي الملون ..البسيط .. لعالم آخر أجهله..
ينتظرنيفاتحا ذراعيه ليحتويني في عباءة ..
تساءلت ..
كيف ستبدو الأشياء .. الناس .. لون السماء .. وحجارة الرصيف .. إذا ماغشيها السواد ..
وأنى للساني أن يمسكعن الكلام بحضرة الغرباء وبين القامات الشاهقة .. وأنا التي ماعرفتالصوم يوماعن الحديث ..
طيلة طريق جمعني بنساء صغيرات يهوين ممارسة الثرثرة .. ؟
أخذت في استرجاع توجيهات والدتي .. دعواتها .. كلماتها .. حكايتها العذبةعن المعطف والمطر
وجسرٍ موصلٍ للجنة لا تعبره بسلام سوى الصالحات ..
ثم عنّ ليأن أتكيف مع عالمي الجديد .. فأوعزت إلى مخيلتي بأن تصنع لي معطفا
كذلك الذيفي حكاية أمي .. وأسميتني سيدة المطر ..
هكذا ببساطة تجاوزت ذلك المنعطفحين فاجأني بدون علامات .. أوإشارات مسبقة ..
وعبرتُ ضفة إلى أخرى على ظهرسفينة من وهم أبحرت بي بمجاديف الخيال ..
الخيال .. هذا السخي الذي لايفتأيغدق علينا من عطائه الثر كلما أجدبت أيامنا ولم تنبت لنا مانستظل بفيئه
.. فكيف إذا اشتدت حرارة الأسئلة وتساقطت كالحمم على رؤوسنا الحاسرة ..
قطعا .. سيمنحنا سقفا واقيا ..
أستجلب تلك التفاصيل .. فتشدني إلى التأمل في الخطوطالفاصلة بين الأشياء ..
وهي تمهد للانتقال من نقطة إلى أخرى ..
أشتعل فضولا وتذوب تأملاتي خشوعا أمام عظمة الخالق ..
و تسييره لهذا الكون ومافيه وفق نظامدقيق وبانسجام مذهل دون خلل أو توقف ..
ألهذا أمرنا بالتفكر في آيتين منأعظم آياته .. تتجليان في مشرق شمس كل يوم ومغيبها ..
ليل ينسلخ من نهار.. ونهارينسلخ من الليل ..
أتساءل .. ماذا لو هبط الظلام بغتة .. أو .. انفجر الصبح كذلك
دون أن ينسلخا من غلس أو عتمة .. ؟
وكيف لو .. ابتدرنا زمهرير الشتاء .. دون أن يرسل الخريف بين يديه نذيرا
يصيح مبددا برياحه الغاضبة .. دفءأمسياتنا الحالمة .. ليغادرنا الصيف مفجوعا
بكبريائه الجريح ..
حتما ..
لمتتشابك الخواطر وتتراكم التأملات بهذه الصورة في عقل طفلة لم يدفعها التفكيربعدلتسلق
المناطق الوعرة ..
واكتفت فقط بقنطرة صنعتها ذات مساء من بعض حكايامعجونة في الذاكرة ..
لعلها تيسر لها العبور إلى عالمها الجديد .. الذيماعاد جديدا مع تطاول العهد ..
فقد مضت السنوات .. وتوثقت عرى الصداقة بينيوعباءتي ..
ولازلت أحيا حلم سيدة المطر ... غير أن كثيرا من المعاني الكامنةبين طيات الحجاب
والحكمة الواقفة خلف الأمر به.. جئن ليضفن للأحلام فصولاأخر .. زدن من لذاذتها ..
وجعلن ارتداءها يشبه الهروب من ضياء إلى ظلام .. الأول كجنة الدجال والآخر كناره ..
ليصبح التلفع بسوادها تجنبا لسواد آخرواستجلابا لبياض ليس يجبى إلا على أجنحة الغربان ..
ففي عباءة تولد مواسمالربيع ويشدو العفاف بأنشودة النقاء ..
ومع عباءة تكتمل أنوثة امرأة يختزلهاالسفور في جسد.. فتجد لجسدها روحا لا تُنزع..
ولكتابها سطورا لا تلتهمها نظراتقارئ جائع .. أو تمتد إليها أنامل قارئ مكفوف ..
ولأفكارها .. وحديث ملامحها .. الحرية من رق الآسرين وفضول العابرين ..
ليبقى .. فرحها ووجومها .. ألمهاوسكونها .. خوفها .. لافتات مشاعر مستترة..
تتمرد.. تنتفض .. ويسعدها ألا يلمحهاأحد .. لأنها مغلفة بعباءة ..
فيها وبصحبتها فقط تتابع زخّات الأحاديث السرّية. .
تنقلها من خطرة إلى أخرى ..