اذا لامس القلب معرفة الله تحوّل من حال الى حال آخر أسعد وأعظم ..
فمعرفة الله اذا استحكمت فى القلب استحكاما دقيقا قذفت فيه نورا يشع على صاحبه , وهداية تدفعه لكل خير , واحساسا يجعله يشعر بمن هم فى حاجة وكرب , وهمًّا يجعله يشعر بهموم الاخرين من حوله ..
بل ويتعدى ذلك الى أن هذه المعرفة الحقة تصل به الى ان يكون عبدا ربانيا يتكلم بكلام الله وينطق برحمات الله ويسعى الى رحمة عباد الله ..
فيلين الجانب , ويساعد المحتاج , ويطبب العليل , ويصنع الخير , ويغلق الشر , ويتحول الى منارة وشامة وعلامة فى دنيا أصابها الزمان بعطب نفوس الناس , فصارت قاسية لاتتأثر ولاتتحرك حتى فى مجرد محاولة تغيير التفس والأخذ بأيدى الآخرين .
لقد كان رمضان جامعة ايمانية كبيرة على أثرها وفى فصولها وعلى دربها يجب الوعد والعهد ممن دخلها أن ينظر ماذا سيكون بعد رمضان .. ويطيل الفكر فيما اذا كان قد قَبل الله منه رمضان وأعتق رقبته وغفر ذنبه وكتب له الرحمة .. أم ماذا كان عند ربنا الديان ؟
أولا : عهد على دوام المحاسبة :
اذا أراد المسلم أن يحيا حياة الصالحين الربانيين , فعليه دائما محاسبة نفسه حسابا شديدا , فهى دواء من كل داء , والشفاء من كل سقم وبلاء , وهى المطهرة للبدن , والرافعة للشأن والقدر , عند مليك مقتدر بل وعند كل البشر .
فلقد ترَكَنا رمضان ورحل , وأصبحنا لاندرى أقَبِلَه الله منا أم لا ؟ أأعتق رقابنا أم لا ؟ أغفر لنا وحمنا أم لا ؟
إن رمضان رحل عنا , وكان من غايته الأولى أن تتحقق فى العباد التقوى ’’ لعلكم تتقون ’’ فهل تحققت التقوى ؟
التى عرّفها الأمام التقى النقى على بن ابى طالب رضى الله عنه عندما سُأل عن التقوى : مالتقوى ياأمام ؟ فقال :
( هى الخوف من الجليل , والعمل بالتزيل , والرضا بالقليل ,والاستعداد ليوم الرحيل ..)
هذه هى التقوى التى تحتاج أن نقف مع أنفسنا ونراجعها , هل تحققت فيها هذه الأمور العظيمة ؟
والله الذى لاإله سواه , إن كان قد تحققت فلن نؤمِّل فى ربنا الا رضوانا ورحمة وعتقا وغفرانا .
وإن لم تكن قد تحققت فالبدار البدار , والعجلة العجلة , والسعى السعى لتحقيقها والاستغفار والتوبة .
فالتقوى وسام , وقد كانت شعار رمضان وهى مفتاح الجنان ...
فهل درّبنا نفوسنا على تغييرها , والصبر على
الطاعات والبعد عن المعاصى والمنكرات ابتغاء رب العزة والسموات ؟
هل نظرنا الى المستضعفين فرحمناهم بمالنا وعوننا أم بَخَلنا وكنزنا ؟
هل طببنا المرضى وداويناهم على الأقل بعذب أخلاقنا وجمال معاملتنا ..؟
هل شعرنا بالجوع والعطش فاستشعرنا مايلاقيه غيرنا فى بلدان الدنيا من الجوع والعطش والفقر فى كل لحظة ؟
هل تكفلنا مريضا فى علاج , وواسينا مهموما فى كرب .. ؟ هل طهرنا قلوبنا من الحقد والحسد والبغضاء ..؟
هل رغبنا بعد رمضان أن نرفع شعار : غايتنا الرحمن , وقدوتنا العدنان , وشرعتنا القرآن , وبُغيتنا الجنان ..؟
إنها محاسبة تحتاج الى صدق فى الجواب , وعزيمة على ارضاء التواب , ورغبة فى دخول الجنة من أوسع الأبواب .
ثانيا : دوام العبادة والاستقامة حتى حضور اليقين :
فالرب فى رمضان هو الرب فيما بعد رمضان , فاذا كانت السُبُل كلها تبذل فى رمضان لارضاء الله بقراءة القرآن , ومساعدة المحتاجين , ومداواة المرضى , وتسهيل حاجات المحتاجين , والهمّة العالية فى كل أمور الدين .. فان الأمر يستوجب الاستمرار على ذلك بعد رمضان , فتستقيم النفس وتسمو الروح ( فاستقم كما أُمرت ومن تاب معك ) هود :112 , وقال
: قل آمنت بالله ثم استقم . رواه مسلم
فلئن كان فى رمضان الاكثار من قراءة القرآن , فالجميل أن تستمر على سائر الشهور والأيام , ولئن كان الخشوع فى الصلاة والاسراع اليها على وقتها فى رمضان , فان ذلك أوجب على الدوام , ولئن كان العون والمساعدة للمرضى والمحتاجين فى رمضان , فانهم أيضا – هم أنفسهم – المحتاجون بعد رمضان , وعلى سائر الشهور والأعوام , فليستمر لهم العطاء , وليكن بعد رمضان معهم كل الوفاء , ولئن كان البعد عن المحرمات فى رمضان سمتا عاما للصائمين , فأن الأمر لايختلف عنه بعد رمضان , بل أن الأصل هو البعد عنها فى كل زمان وأيا كان المكان .
ولئن كان دعاؤك والحاحك على الله فى رمضان لايتوقف , فأن الالحاح بعد رمضان مطلوب لعل الله يجبر الكسر , ويرفع الهم , ويعتق الرقبة , ويفك الحصر , ويحرر الأقصى ويسعد أمة الحبيب
.
ثالثا : اجعل شعارك ,, لن أنقض غزلى بعد رمضان ,,
إسأل ربك ثباتا بعد رمضان على ماكنت عليه وادعوه بقوة ومن قلبك , : اللهم يامقلب القلوب ثبت قلبى على دينك ,,
اجعله شعارك ومنهاجك فى الثبات وعدم التبديل بعد رمضان , فلا تهدم نفسك التى ربيتها فى رمضان على الحب لتحوّلها بعده الى البغض , لاتتوقف عن الدعاء والصلاة فى المسجد والتسبيح والنوافل ولاتهجر قرآنك , فحَمَلَة القرآن هم الذين تصدوا لليهود فى حرب الفرقان فى غزة العزة .
لاتستبدل قرائتك له بسماع الأغانى , ولاتستبدل احسانك لوالديك بعقوقك لهما ولو بكلمة أف , ولاتستبدل صبرك وتحملك ونَفَسَك الطويل – الذى رباك عليه رمضان – بيأس وقنوط , ولاتستبدل حنانك ورأفتك بالمحتاجين والمرضى فى رمضان بنفور وبُعد بعد رمضان , ولاتستبدل صفاء القلب من الحقد والحسد الذى تربيت عليه فى رمضان بغلٍّ وحقد وحسد ومحاربة الناس بعد رمضان , ولاتستبدل لين الجانب وحسن الخلق الذى سموت به فى رمضان بسوء أخلاق وطول لسان بعد رمضان , ولاتستبدل حبك لزوجك وأبنائك ورحمتك بهم فى رمضان الى قسوة معهم وغلظة وسوء عشرة وهوان .
رابعا : احرص على أن تكون حياً بعد رمضان :
اعلم وتذّكر دائما أن مَثَل الذى يذكر ربه والذى لايذكر كمثل الحى والميت , فالذكر يزيل الوحشة بين العبد وربه , قال رسول الله
: ان مما تذكرون من جلال الله التسبيح والتهليل والتحميد , يتعاطفن حول العرش لهن دوىٌّ كدوى النحل , يذكرن بصاحبهن , أفلا يحب أحدكم أن يكون له مما يذكر به ؟ ,,
والجميل فى كثرة الذكر , أن الاكثار منه والدوام عليه ينوب عن التطوعات الكثيرة التى تستغرق الجهد والوقت , وفيها عوض لمن لايستطيع أن يفعل الطاعات بدليل ماجاء فى الحديث الصحيح : ,, إن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه فقالوا : يارسول الله ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلا والنعيم المقيم ,
يصلون كما نصلى , ويصومون كما نصوم , ولهم فضل من اموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون .
قال : ,, ألا أحدثكم بأمر إن أخذتم به أدركتم من سبقكم ولم يدرككم أحد بعدكم وكنتم خير مَن أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله : تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ,,
كما أن الذكر يعطى قوة فى القلب وقوة فى البدن , ومن أجمل الأمور فى الذكر والاكثار منه هو أن شواهد الله فى أرضه تشهد له , فالذى يذكر الله فى قمة الجبل أو فى الطريق أو فى السيارة أو فى البيت أو على الكرسى أو على الأرض قائما كان أو قاعدا أو مضطجعا على جنبه ... كل هذه البقاع والأماكن تشهد له عند الله .
جاء فى الحديث أن رسول الله
قرأ هذه الآيه : ,, يومئذ تحدث أخبارها (4) الزلزلة . قال :
,, أتدرون ماأخبارها قالوا : الله ورسوله أعلم ؟ قال : فان اخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها , أن تقول : عملت علّى كذا يوم كذا وكذا ,, .
وجدير بالذكر أن ننبه هنا أن ذكر الله ليس مجرد أقوال تقال باللسان وفقط , وإنما هى تفاعلات وأحاسيس وإيقاظ للنفس لتتحرك من حالها الذى هى عليه الى حال أجمل مايكون من الروحانية والشفافية والربانية والفراسة والايمان , بل إن الأمر قد يصل بالذاكرين الله كثيرا الى مرحلة الكرامات من الرب العظيم يعطيها لهم كرما وفضلا منه وتفضلا .
خامسا : الزم التقوى
أسلك كل السبل والوسائل لتنمية وتقوية التقوى فى نفسك وأعمالك وذاتك .. فهى دعوة الله للأنبياء جميعا .
تزود من التقوى فانك لاتدرى
اذا جنّ ليل هل تعيش الى الفجر
فكم من فتى أضحى وأمسى ضاحكا
وقد نسجت اكفانه وهو لايدرى
وكم من صغار يرتجى طول عمرهم
وقد أُدخلت أجسادهم ظلمة القبر
وكم من عروس زينوها لزوجها
وقد قُبضت أرواحهما ليلة العرس
سادسا : بادر بالتوبة
سارع دائما الى طلب المغفرة من الله والتوبة النصوح , واللحاق بركب أصحاب الجنة والمعالى ..
ويكفيك نبيك وقدوتك فى ذلك محمد
الذى كان يستغفر ويتوب الى ربه وخالقه سبعين أو مائة مرة فى يومه .. وهو من هو ؟؟
هو النبى لاكذب هو ابن عبد المطلب .. هو من غفر الله له من ذنبه ماتقدم وماتأخر ..
( وسارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ) 133أل عمران ..
التائب من الذنب كمن لاذنب له .
وأسأل الله أن يتقبل منا ومنكم رمضان ويجعله شاهدا لنا لاعلينا .
وصلى اللهم على محمد معلّم الناس الخير .
[ وصلنا عبر بريد الملتقى , فجزى الله مُرسله وكاتبه خير الجزاء ]