من الشرق
ما هو إلا أن اضطجع في فراشه, واستسلم للنوم؛ حتى ارتاع لصراخ أخيه الذي يشاركه غرفة النوم.
هرع نحوه, أحتضنه, وراح يربت على ظهره محاولاً إيقاظه للاستفهام عما يخيفه؛ سرعان ما أدرك الأمر, من أصوات الطَرق المرعب على باب شرفة غرفتيهما.
كان أخوه مضطرباً يهذي بصوت باكٍ, ويهم فتح الباب, فأخذ يهزه من كتفيه عدة مرات ويقول له بصوت غلبت عليه الحدة:
ـ كفَّ عن هذا الجنون, أفق؛ إياك أن تفتح الباب, فاغلب الطارقين أعداء.
ـ هذه فرح, تحاول الاستنجاد بنا, أرجوك افتح الباب, أو دعني أفتح.
ـ أفق, عن أي فرح تتحدث؟! هذا الشيطان في الخارج.
ـ بل هي فرح, أصغ إلى صوتها المستغيث, طرقها للباب بهذا الشكل ينذر بأنها في خطر, لن أبق مكتوف الأيدي أمام توسلاتها؛ أرجوك دعني أفتح لها الباب وليكن ما يكون.
تحت الضغط الشديد من أصوات الطرق المرعب, وتوسلات أخيه, وبين مصدق ولا, خامره الشك لأن تكون هي فرح.
تتقدم قدماه نحو الباب بخوفٍ متردد, يقدم واحدة وتتأخر عنها الأخرى, يداه ترتعشان بشدة, يقترب من الباب, يَهم بفتحها, فإذا هي فرح أمامه وجها لوجه, لقد أحالها الخوف إلى شبح إنسان, كان الانهيار بادياً على تقاسيم وجهها المصفر, تحمل بيدها ورقة, تدفع بها إليه, وبصوت مخنوق ومتحشرج كانت تقول:
ـ أحمد, أحفظ هذه الورقة أرجوك, الشيطان يطاردني! عليَّ أن اذهب بسرعة لاختبئ منه،
وبعجل نظر إلى الورقة التي في يدها, وفي دهشة قال:
ـ هذه ورقة شجرٍ يابسة!
ـ هي كما تراها, أحفظها أرجوك, وإياك أن تفقدها, أو أن يأخذها الشيطان منك.
وضعتها في مكان عالٍ في غرفته, و غادرت مسرعة .
أدرك في الحال أن هذه الورقة هي مبتغى الشيطان, ولن يكون قادرا على حمايتها في هذا المكان المكشوف, فقرر إنزالها من مكانها, كي يحفظها في مكانٍ أكثر أماناً.
في اللحظة التي امتدت يده تجاه الورقة, جن جنونه لأمر رهيب تزلزل له كيانه, وكاد أن يشل جسده؛ انهالت عليه أوراق كثيرة من ذلك المكان, مشابهة لورقة فرح المخبئة, حتى غرق المكان من تحت قدميه بسيل من الأوراق, وفاض بها البيت.
عجز أحمد عن استعادة ورقة فرح من مكانها الذي وضعتها فيه, انكب يبحث بلا وعي؛ كالمجنون يفوج بكلتي يديه بين ركام الأوراق الكثيرة التي اغرقت الأرض؛ وبينما هو على هذا الحال المزري من البحث المضني واليائس فجأة, انطفأت كل الأضواء وعم البيت ظلام دامس.
وسط حالة الرعب التي يعيشها أحمد, والظلام الذي يلف المكان, عاودته أصوات الطرق الجنونية للباب مرة أخرى؛ وكغصن في مهب الريح قام يمشي بخطوات متعثرة يتخبط بالجدران, يخوض بركام الأوراق المتساقطة كمن يخوض بنهر ليتبين مصدر الصوت.
أنصت قليلاً, فإذا صوت الطرق قادم إليه من ناحية الشرق, إنها الباب الرئيسة للبيت, طرق للباب بقوة أكبر, واهتزازات أعنف.
بخطىً أثقلتها المخاوف وكبّلها الرعب سارت قدماه التي لم تعودا قادرتين على حمله تجاه الباب؛ مفاصل جسمه ترتعد من هول الحدث, وقف قبالته وصاح:
ـ من الطارق؟
تثير الطرقات المرعبة فزع أخيه ويرعبه الظلام الذي يلف المكان, بل يسلبه عقله, فيتشبث بأكتافه خائر القوى يرتجف, وهو على حاله من الخوف المتوجس كان يقول لأحمد بصوت خافت يكاد يكتمه الخوف:
ـ قد تكون فرح جاءت لتختبئ عندنا, ريثما يتركها الشيطان ويغادر عنها بعيداً؟
تناوب الخوف والقلق على أحمد, تجاذبانه من كل تجاه، حين نظر بهلع نحو الضوء الخافت المنبعث من تحت الباب, صعقه المنظر كمن لدغته أفعى؛ تراجع مسنداً ظهره إلى الحائط القريب منه, ألتفت إلى أخيه وحرك يده بتشنج تجاه الباب, في إشارة له انظر.
ما أن توجه أخاه بنظره تلقاء الباب, حتى استطار فزعا, اتسعت عيناه, جحظتا, كادتا أن تغادرا محاجريهما.., شهق, ثم صرخ:
ـ حوافر حمار!! قدما الطارق, حوافر حمار!
تردد صدى صراخهما مدوياً في أرجاء البيت الغارق بالظلام, والأوراق المتساقطة؛ تلاحقت أنفاسهما حتى بديا وكأنهما سيلقيان حتفيهما رعبا, تراجعا بخطواتهما إلى الوراء والرعب يعصف بجسديهما وهما يلتصقان ببعضهما, ليبدوان ككتلة لحم واحدة .
في تلك الأثناء, ضرب سؤال ملح ظلالا قاتمة بعقل أحمد, وأشعل برأسه فتيل قلق وخوف من أن لا يصمد باب البيت أمام تلك الطرقات العنيفة, دعاه ذلك السؤال ليستجمع شجاعته ويصرخ مرة ثانية:
ـ من الطارق؟
لم يسمع, إلا زفرات كفحيح الأفعى, كانت تصله مرافقة لصوت الطرق المرعب للباب, الذي لا يتوقف, بل يشتد مع صوت الفحيح ويزداد ارتفاعًا.
عينا أحمد تجولان إرجاء البيت المسكون بالظلام, والفحيح, والطرق المرعب؛ وفي غمرة الذهول تراوده كوابيس اليقظة فيتخيل شكل الطارق, كيف يكون؟ ربما هو أفعى مخيفة وكبيرة جداً, لا تشبه الأفاعي في شكلها الذي يعرفه الناس, ربما هي من النوع الذي يبتلع الإنسان, وهي الآن تلتف حول جسده وهو يتلوى منها, إنها تخنقه لتزهق روحه, انتابته نوبة أشبه ما تكون صرعاً وهو يتحسس جسده المرتعش.
الخوف العميق يلتهم عقله بلا رحمة وأصوات الفحيح تتناهى إليه, تطرق سمعه بقوة, إنها تقترب منه؛ هو الآن يبحث عن السبيل للخلاص والفكاك, يبكي, يتوسل, متضرعا إلى الله في ثنايا عتمة ليله الطويل, يصرخ بأعلى صوته, ولكن صوته بالكاد يخرج، لقد كان مبحوحا متحشرجا.
يملأ صراخه المبحوح جدران البيت وعلى تلك الأصوات, تستفيق الأم؛ تركض نحوه لاهثة ورجفة الرعب قد سرت في أوصال جسدها المتعب لسماعها صوت ابنها المستغيث.
تسحب الغطاء الصوفي الذي يلتف على جسده كالأفعى تلتف على فريستها، وبصوت حان كانت تدعوه ليستفيق:
ـ يا بني أستيقظ, ما الذي أصابك؟! هل أنت بخير؟
استفاق من نومه مذعوراً, فتح عينيه, نظر من حوله وعن يمينه ويساره ثم قال:
ـ الحمد لله .
ـ أ هو كابوس؟
ـ نعم, الكابوس ذاته.
ـ تعوذ بالله منه, وانفث عن يسارك, واسأل الله خيره؛ وقم فأنك تأخرت عن الدوام ساعة كاملة.
سكون غريب يلف المكان في الخارج, لم تعد الأشياء كما هي في السابق, قالها بقلق وكآبة, مازال تأثير ما رأى في منامه باد على تقاسيم وجهه الممتقع.
جلس وراء مكتبه, لملم أوراقه نضدها قبالته, حاول أن يباشر عمله, لم يستطع؛ أسند ظهره إلى كرسيه, واستل جهاز التحكم الخاص بالتلفاز, وضع الجهاز على قناة الجزيرة الإخبارية, فإذا به مذهولاً يصرخ:
ـ "لا حول ولا قوة إلا بالله", "لا الله إلا الله"
رفع سماعة الهاتف في عجل:
ـ ألو . . .
وفي هلع قال:
ـ أماه شغلي جهاز التلفاز على قناة الجزيرة الإخبارية.
وبعد أن شغلت الأم الجهاز بسرعة, ووقع نظرها على الخبر الذي كانت تبثه القناة في ذلك الوقت, حتى صاحت هي الأخرى: "لا حول ولا قوة إلا بالله" "اللهم لك العتبى حتى ترضى".
"عاجل _ هز بغداد صباح هذا اليوم, خمسة انفجارات دامية, مئات القتلى ومئات الجرحى, والأشلاء تملئ المكان".
للكاتبة ام عثمان(ندى القيسي)